عندما يعترض منشور زجاجي شعاع الشمس الأبيض يُحوله إلى ألواناً رائعة تُعرف بألوان الطيف، فهل الأصل أن شعاع الشمس أبيض والمنشور كاذباً؟ أم أن المنشور جد صادق وعيوننا هى القاصرة على رؤية حقيقة الشيء فأعاذت بالمنشور في سبيل تبيان حقيقة كانت غائبة خلف قصورها؟
يقول علماء الطبيعة أن اللون ليس له وجود خارج الجهاز العصبي للكائنات الحية، أي ليس هنا وجود حقيقي لشيء اسمه اللون، هو مجرد تأثيراً فسيولوجياً يحدث داخل الجهاز العصبي،.. هو مجرد تأثيراً حسياً.
إذن لنتفق علمياً أنه ليس للألوان وجود مادي ملموس، وأن اللون نفسه مجرد اكذوبة شأنه في ذلك شأن الكثير من الأكاذيب التي نراها ونُقر بوجودها؛ بينما يطالعنا العلم بحقيقة عكس ما نعتقد،
وهنا قد نصل إلى الحجر الذي رفضه البناة، وأصبح فيما بعد حجر الزاوية في هذا المضمار، وهو العلاقة بين الألوان والكذب.
اللغويون استخدموا كلمة اللون بمعنى صنف أو نوع؛ فنقول ألوان الأدب، ألوان العذاب، وألوان الكذب أيضاً،
والكذب ألواناً كثيرة.. منها المُباح ومنها المرفوض خُلقياً وشرعياً.
***
لنبدأ بتعريف ما هو الكذب..
قالوا: أن الكذب هو مخالفة القول للواقع، وقالوا: هو الإخبار عن الشيء يخالف ما فيه، وكل إخبار يخالف الواقع يُعد كذباً، وعلي حد قول الطريحي: الكلام ثلاثة.. صدق وكذب وإصلاح، ولا توجد واسطة بين الصدق والكذب على المشهور.
لنقترب الآن أكثر من ألوان الكذب وهى:
الكذب الصريح:
وهو الكذب عن علم وليس عن جهل، فمن يكذب وهو يعلم أنه يكذب قال فيه عز من قائل في مُحكم تنزيله:
" إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ " النحل 105
" إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ " غافر 28
" فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ " البقرة 10
" وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ " الزمر 60
" وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ " الجاثية 7
" فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ " التوبة 77
" فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ " آل عمران 61
وفيهم قال الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم:
" إن الصدق بر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن العبد ليتحرى الصدق حتى يُكتب عند الله صدِّيقا، وإن الكذب فجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن العبد ليتحرى الكذب حتى يكتب كذاباً " رواه البخاري ومسلم
وفي الحديث المشهور:
عن محمد بن خلاّد عن الإمام علي بن موسى الرضا قال: سئل رسول الله صلي الله عليه وسلم: يكون المؤمن جباناً ؟ قال: نعم، قيل: ويكون بخيلاً؟ قال: نعم، قيل: ويكون كذاباً؟ قال: لا
وعنهم قال الإمام علي كرّم الله وجهه: يكتسب الكاذب بكذبه ثلاثاً: سخط الله عليه، و استهانة الناس به، و مقت الملائكة له.
وقال: ثمرة الكذب المهانة في الدنيا، والعذاب في الآخرة.
وقال سعد بن أبي وقاص: المؤمن يُطبع على الخلال كلها غير الخيانة والكذب.
وقال عمر رضي الله عنه: لا تبلغ حقيقة الإيمان حتى تدع الكذب في المزاح.
وقال عبد الله بن مسعود: إن الرجل ليصدق؛ ويتحرى الصدق حتى ما يكون للفجور في قلبه موضع إبرة يستقر فيه، وإنه ليكذب ويتحرى؛ الكذب حتى ما يكون للصدق في قلبه موضع إبرة يستقر فيه.
وقال أبو بكر الصدِّيق: إياكم والكذب فإنه مجانب الإيمان.
وفي إنجيل متى، الإصحاح التاسع عشر، وإنجيل مرقس الإصحاح العاشر، وإنجيل لوقا الإصحاح الثامن عشر؛ وفي سرد وصايا السيد المسيح عليه السلام: لا تقتل، لا تسرق، لا تشهد بالزور، أكرم أباك وأمك، ومن الوصايا العشر لوقوم إسرائيل على لسان موسي عليه السلام: لا تنطق باسم الرب الهك باطلاً. لان الرب لا يبرئ من نطق باسمه باطلاً.
ومن وصايا بوذا: لا تقضِ على حياة حي، لا تسرق ولا تغتصب، لا تكذب....
وكل الأديان والشرائع على السواء أجمعت على رفض الكذب واعتباره أحد المحرمات الكبرى.
***
أما عن التورية:
فالتورية هى التلاعب بالألفاظ، والسؤال هنا هل تُعتبر التورية كذباً؟
الواقع أن التورية لا تعتبر كذباً، ولكنها تُعد مخرجاً منه ما دامت في النهاية ترمي إلى الصدق، فقد قال فيها الرسول الكريم:
" إن في معاريض الكلام مندوحة عن الكذب " والحديث نقلاً عن الشبكة الإسلامية.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " إني لأمزح ولا أقول إلا حقاً "
وعن أبي هريرة قال: قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا قال: " إني لا أقول إلا حقاً "
وروي عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه في أحدى الغزوات سأل إعرابياً عن جيش المشركين ولم يكن الإعرابي يعرفه، وحين سأله الإعرابي من أين أنتم قال الصادق: " نحن من ماء " ويقصد الماء الذي خُلق منه الإنسان، بينما فهم الإعرابي أنهم من ماء العراق.
وفي الحديث المشهور عندما سألته المرأة العجوز هل تدخل الجنة؟ فجاوبها: " لا يدخل الجنة عجوزاً " ففهمت المرأة المعنى القريب فبكت، لكن النبي صلي الله عليه وسلم كان يرمي إلي أنها ستدخل الجنة بكراً كما في قوله عز وجل " إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً ، فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا " الواقعة 35-36
ومما يروي عن الصديق أبو بكر أنه كان يمضي مع رسول الله صلي الله عليه وسلم، وعندما سأله بعض الأعراب عن الرسول الكريم ولم يكونوا يعرفوه وأبو بكر لا يريد أن يُفصح لهم عن شخصيته فجاوبهم: " هو هادٍ يهديني " والمعني القريب أنه يرشده إلي الطريق، بينما المعني الذي أراده الصديق كان أنه يهديني إلى طريق الحق.
لكن علماء الشريعة حرّموا التورية في سبيل إسقاط حق كأن نسأل أحداً: هل شربت خمراً اليوم ؟ فيقول لا لم أشرب، وفي ذهنه أنه لم يشرب ماء.
***
هناك أيضاً لون من ألوان الكذب الجائز:
وهو فيما رواه البخاري ومسلم عن المصطفى صلي الله عليه وسلم " ليس الكذاب الذي ينمي خيرا أو يقول خيرا "
وما رواه أبو داود وأحمد " أنه لم يرخص في الكذب إلا في ثلاث: في الإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها كذلك، وهو في الحق "
ولكن في هذا لا يؤخذ الأمر علي علته فيصير ترخيصاً للأزواج الكذب في كل شيء، بل ذُكر كأن يحمد الرجل إمرأته في أمر لا يراه فيها في سبيل إصلاح الأمور بينهما، وتغيير كلاماً سيئاً إلى كلام حسن قيل في فلان هو إصلاح بين الناس وليس كذباَ، وفي حالة الحرب أيضاً، وفي حالة الإرغام " لا يؤاخذكم الله باللغو فى إيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور رحيم "
***
وكما أن للكذب ألواناً كثيرة، له أيضاً مضار كثيرة، ودواعي كثيرة، لكن الغريب أننا نجد من يكذب كذباً لا لأجل الخروج من موقف حرج، أو تحت ضغط وقع عليه، ولكنه يكذب لأجل الكذب نفسه، وكأن الكذب قد تحول إلى فضيلة في زمان صار فيه الصدق ذنب عظيم،
بل أن الأغرب من يتشدقون بكلام الله دون أن يعقلوه، وكأن الجهل قد أطبق عليهم فأصبحوا يقولون على الله ما لا يعلمون.
أما الاستهانة بهذا الجُرم العظيم فهي جُرم أعظم تقترفه ألسنة الناس بجهل،
نسأل الله أن يجعلنا من الصادقين الذين ينفعهم بصدقهم
قولوا اللهم آمين..
0 comments
Post a Comment