لماذا يصرخ الوليد فور خروجه من رحم أمه؟
ظل هذا السؤال يشغل مُخيلتي وقتاً طويل حينما كنت طفلاً، لكن والدي رحمه الله قال لي: لأنه يخرج من براح الرحم إلى ضيق الدنيا.
لم تكن تلك إجابة شافية لي آنذاك؛ قدر ما كانت لغز جديد، وأحجية شغلت مخيلتي حتى بعدما ودعت طفولتي ومراهقتي وشبابي أيضاً.
فكيف يكون هذا الرحم الضيق الخانق، الملئ بالدماء والعصارات المخاطية؛ أرحب من الحياة بكل شوارعها، ومدنها، وبلدانها؟
كيف يكون هذا السجن البشري المتحرك، أوسع من الدنيا؟
ولكن في مرحلة ما، أحسست أن قطار العمر قد اقترب كثيراً من محطته الأخير، وأني على وشك وداع هذه الحياة التي كنت أظنها رحبة، في طريقي لدخول سجن جديد اسمه القبر.
وكأن تلك الرحلة الطويلة – بكل أبعادها – هى مجرد خطوة نقلتني من سجن الرحم، إلى سجن القبر،
ولكني كنت واهماً أيما وهم، غافلاً أيما غفلة. فأنا لا انتقل من سجن إلى سجن، بل من حرية إلى حرية، وتلك الخطوة التي تسمى الحياة هى السجن الحقيقي، حيث الروح حبيسة جسد ثقيل، وعقل هش.
فمن يعرف الحياة على حقيقتها، من يراها عارية مجردة من كل أقنعة الزيف؛ لأبد أن يتوق إلى الموت، مثلما أتوق أنا، وكأنه بيتي الذي فصلتني عنه سنوات وسنوات من الغربة، هى سنوات عمرى، وفترة وجودي على سطح هذا الكوكب.
لقد كان مستحيلاً بكل ما تحمل الكلمة من معنى أن أصل إلى مثل هذا العمق في أغوار نفسي إلا حينما أكون وحيداً، بعيداً كل البعد عن ضغوط الحياة، ومشاكلها، والركض الدائم والمستمر خلف لقمة العيس، والبحث الدائب عن لحظات السعادة التي تشبه فلاش كميرا فوتوغرافية في فضاء ليل حالك.
وبالفعل، وهبتني السلطات هذه الوحدة، هذه الحالة من التفرد والوحشة، هذه اللحظات التي اختصرت العالم أجمع داخل أربعة جدران حفظت تفاصيل تفاصيلها، وكأن خريطة الدنيا منقوشة عليها،
صادقت الجرذان، وعرفتهم بأسمائهم، عددتُ فتحات الأسلاك الشبكية التي تحيط بالقضبان، اقتربت من نفسي حتى شعرت في لحظة أني وصلت إلى لب تلك الآلة المُعقدة التي ركبها الخالق جل وعلا في جمجمتي.
كانت لحظات لا تستطيع قواميس اللغات المعروفة وصفها،
كانت مزيجاً عجيباً بين الدهشة والجنون، بين الحزن العميق والفرح الذي كاد يطيش بصوابي، بين خوفي منها وسعادتي الغامرة بأنها تمرين رائع لتلك اللحظة التي سوف أودع فيها الحياة عما قريب.
أقرب الأصدقاء لي كانوا أربعة؛ كتاب القرآن الكريم، وكتاب الإنجيل، والأوراق والقلم. كل نبضة في قلبي دونتها، كل خلجة اختلج بها عقلي سطرتها ولا أدري هل سوف يقرأ أحد هذه الكلمات التي لا تعني شيء إلا لصاحبها؟
ومن سوف يهتم لقراءة سطور من حياة إنسان جاء إلى الدنيا.. وسوف يرحل مثلما جاء.
غير أن السؤال الأهم بالنسبة لي آنذاك كان هل سوف أخرج من محبسي هذا، أم أن هذه الأوراق التي تحمل تفاصيل تفاصلي سوف تُدفن معي في هذا المكان الموحش؟..
لكن ها أنا الآن أتنسم عبير الحرية، مثل تلك الطيور التي كنت أراها من محبسي تجوب أرجاء السماء، ولا تحمل مني سوى نظراتي اليائسة،
ها أنا أجلس في بيتي، وسط أولادي، أستطيع الخروج إلى أي مكان بعدما كانت النكتة التي ابتكترها في أحضان السجون.. أني سوف أخرج إلى المقهى قليلاً ثم أعود.
ها هى أصابعي تضرب على أزرار لوحة المفاتيح لتنقل كل كلمة من سجن أوراقي، إلى رحابة شاشة الحاسب،
لمَ؟ ولمن؟ .. لا أدري
ولماذا أفكر الآن في حجب بعض التفاصيل، وتغيير بعض الأسماء؟
هل لأني مازلت على خط النار، قد أعود إلى السجن في أي لحظة؟ أم تراها رسالة إلى نفسي بأن حتى أنا اضطر لإخفاء وتغيير بعض الأسماء والتفاصيل، بعدما كنت أقف في وجه الجبابرة، أصرخ بكل ما اوتيت من قوة.. يسقط.. ويسقط.. ويسقط.؟
لكن حقاً لا مناص من تغيير بعض الأسماء درئاً للمفسدة، الذي هو دائماً وأبداً مُقدم على جلب المنفعة.
هذه المذكرات – والتي لا أدري هل سوف يُمهلني القدر لاستكمالها أم لا – هى حياة كاملة، كُتبت في لحظات صدق ليس لها مثل عندما تحررتُ من ضغوط الحياة، عندما اقتربت من نفسي ومن خالقي، عندما اكتست روحي بشفافية ليس لها مثل.. فقط عندما أصبح العالم ....... أربعة جدران.
4 comments
أخى المتألق دائما
كلماتك اليوم حملت عده وجوه .. أو جمعت عدة ملامح من وجوه مختلفه
حروفك كتبت بصدق يصل للقارىء سريعا
ولكنها تزيد من اسئلتنا .
وتزيد من حيرتنا فيما خطه قلمك.
فلقد لمحنا الكثير من المعاناة ما بين احرفك .
وايضا رأينا بريقا من نور .. وبسمه غير واضحه .. أو بريق من امل بداخلك .
عن جد يا اخى
ابدعت فى تلك الخاطرة وتلك الأحساس .
فبالرغم من كم الالم الذى حملته معانيك .. ألا ان وصفت وأجدت الوصف
واعتقد يا اخى أن الجميع سينتظر تلك المذكرات .
لأن ستحمل الكثير من الصدق والكثير من الخفايا عن حياة ربما مختلفه .
ولكن اتمنى ان تأخذ حذرك مما ستكتب ..
فالأفضل دائما هى حريتك الدائمه يا اخى .
وتقبل منى تقديرى .
بحق أبدعت .. وفى انتظار الباقيه
فلا تتأخر بها علينا
4/4/09 19:59
أسعدني مروركِ يا ضي كالعادة أيما سعادة
خاصة على كلمات لا قيمة تعليمية أو فائدة، وإنما هى مجرد خلجات جاش بها عقلي وقلبي، ولولا أني أخشى عليها من الضياع فيفقد أولاد ما كان من حياة أبيهم، وما فعل لأجله، وما تكبد من مشاق من أجل غد أفضل لهم؛ لما فكرت في كتابتها.
فما أصعب على الإنسان من الحديث عن آلامه واحباطاته
دامت مودتكِ، ودام مروركٍ .. ودمتِ بكل خير وعافية
6/4/09 12:27
انا فى الانتظار
دمت بخير
7/4/09 21:07
أنا الأخرى أنتظر المذكرات الصادقة التي تعايشنا مع كل حرف فيها
وأتمنى من الله لك ولنا الحرية الكاملة دوما
تحياتي وتقديري
ليل
19/4/09 22:14
Post a Comment